فصل: سورة الحديد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


سورة الحديد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 12‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏2‏)‏ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏3‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏4‏)‏ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏5‏)‏ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏6‏)‏ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏10‏)‏ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ‏(‏11‏)‏ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏سَبَّحَ للَّهِ‏}‏ جاء في بعض الفواتح «سبح» بلفظ الماضي، وفي بعضها بلفظ المضارع، وفي «بني إسرائيل» بلفظ المصدر، وفي «الأعلى» بلفظ الأمر استيعاداً لهذه الكلمة من جميع جهاتها وهي أربع‏:‏ المصدر والماضي والمضارع والأمر‏.‏ وهذا الفعل قد عُدي باللام تارة وبنفسه أخرى في قوله ‏{‏وَتُسَبّحُوهُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 9‏]‏ وأصله التعدي بنفسه لأن معنى سبحته بعدته من السوء منقول من سبح إذا ذهب وبعد، فاللام إما أن تكون مثل اللام في نصحته ونصحت له، وإما أن يراد بسبح الله اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً ‏{‏مَا فِى السماوات والارض‏}‏ ما يتأتى منه التسبيح ويصح ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ المنتقم من مكلف لم يسبح له عناداً ‏{‏الحكيم‏}‏ في مجازاة من سبح له انقياداً ‏{‏لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض‏}‏ لا لغيره وموضع ‏{‏يُحْيىِ‏}‏ رفع أي هو يحيي الموتى ‏{‏وَيُمِيتُ‏}‏ الأحياء أو نصب أي له ملك السماوات والأرض محيياً ومميتاً ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ هُوَ الأول‏}‏ هو القديم الذي كان قبل كل شيء ‏{‏والآخر‏}‏ الذي يبقي بعد هلاك كل شيء ‏{‏والظاهر‏}‏ بالأدلة الدالة عليه ‏{‏والباطن‏}‏ لكونه غير مدرك بالحواس وإن كان مرئياً‏.‏ والواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء، وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فهو مستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية، وهو في جميعها ظاهر وباطن‏.‏ وقيل‏:‏ الظاهر العالي على كل شيء الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه ‏{‏وَهُوَ بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏هُوَ الذى خَلَقَ السماوات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ عن الحسن‏:‏ من أيام الدنيا ولو أراد أن يجعلها في طرفة عين لفعل ولكن جعل الستة أصلاً ليكون عليها المدار ‏{‏ثُمَّ استوى‏}‏ استولى ‏{‏عَلَى العرش يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأرض‏}‏ ما يدخل في الأرض من البذر والقطر والكنوز والموتى ‏{‏وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا‏}‏ من النبات وغيره ‏{‏وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء‏}‏ من الملائكة والأمطار ‏{‏وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا‏}‏ من الأعمال والدعوات ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ بالعلم والقدرة عموماً وبالفضل والرحمة خصوصاً ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فيجازيكم على حسب أعمالكم ‏{‏لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور يُولِجُ اليل فِى النهار‏}‏ يدخل الليل في النهار بأن ينقض من الليل ويزيد في النهار ‏{‏وَيُولِجُ النهار فِى اليل وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏‏.‏

‏{‏ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ‏}‏ يحتمل الزكاة والإنفاق في سبيل الله ‏{‏مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ‏}‏ يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها وإنما مولكم إياها للاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له فيه، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم بتوريثه إياكم وسينقله منكم إلى من بعدكم فاعتبروا بحالهم ولا تبخلوا به ‏{‏فالذين ءامَنُواْ‏}‏ بالله ورسله ‏{‏مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله‏}‏ هو حال من معنى الفعل في ‏{‏مَالَكُمْ‏}‏ كما تقول‏:‏ مالك قائماً‏؟‏ بمعنى ما تصنع قائماً أي ومالكم كافرين بالله‏.‏

والواو في ‏{‏والرسول يَدْعُوكُمْ‏}‏ واو الحال فهما حالان متداخلتان، والمعنى وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم ‏{‏لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم‏}‏ وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ أو بما ركب فيكم من العقول ومكنكم من النظر في الأدلة، فإذا لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول فما لكم لا تؤمنون‏؟‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ لموجب ما فإن هذا الموجب لا مزيد عليه ‏{‏أُخِذَ ميثاقكم‏}‏ أبو عمرو‏.‏

‏{‏هُوَ الذى يُنَزّلُ على عَبْدِهِ‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏ءايات بَيّنَاتٍ‏}‏ يعني القرآن ‏{‏لِيُخْرِجَكُمْ‏}‏ الله تعالى أو محمد بدعوته ‏{‏مِنَ الظلمات إِلَى النور‏}‏ من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ‏{‏وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءوفٌ‏}‏ بالمد والهمزة‏:‏ حجازي وشامي وحفص ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ الرأفة أشد الرحمة ‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ‏}‏ في أن لا تنفقوا ‏{‏فِى سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض‏}‏ يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باقٍ لأحد من مال وغيره يعني وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم فوارث أموالكم‏؟‏ وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله‏.‏ ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال ‏{‏لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل‏}‏ أي فتح مكة قبل عز الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً، ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لأن قوله‏:‏ ‏{‏مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ‏}‏ يدل عليه ‏{‏أولئك‏}‏ الذين أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ‏{‏أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا وَكُلاًّ‏}‏ أي كل واحد من الفريقين ‏{‏وَعَدَ الله الحسنى‏}‏ أي المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات‏.‏

‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ مفعول أول ل ‏{‏وَعْدُ‏}‏ و‏{‏الحسنى‏}‏ مفعول ثانٍ‏.‏ ‏{‏وَكُلٌّ‏}‏‏:‏ شامي أي وكل وعده الله الحسنى نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنه أول من أسلم وأول من أنفق في سبيل الله وفيه دليل على فضله وتقدمه ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ فيجازيكم على قدر أعمالكم‏.‏

‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ بطيب نفسه والمراد الإنفاق في سبيله واستعير لفظ القرض ليدل على التزام الجزاء ‏{‏فَيُضَاعِفَهُ لَهُ‏}‏ أي يعطيه أجره على إنفاقه أضعافاً مضاعفة من فضله ‏{‏وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏}‏ أي وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه‏.‏ ‏{‏فيضعّفُهُ‏}‏ مكي ‏{‏فيضعفَهُ‏}‏ شامي ‏{‏فَيُضَاعِفَهُ‏}‏‏:‏ عاصم وسهل ‏{‏فيضاعفُهُ‏}‏ غيرهم‏.‏ فالنصب على جواب الاستفهام، والرفع على فهو يضاعفه أو عطف على ‏{‏يُقْرِضُ‏}‏ ‏{‏يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات‏}‏ ظرف لقوله ‏{‏وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏}‏ أو منصوب بإضمار «اذكر» تعظيماً لذلك اليوم ‏{‏يسعى‏}‏ يمضي ‏{‏نُورُهُم‏}‏ نور التوحيد والطاعات‏.‏ وإنما قال ‏{‏بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم‏}‏ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم، فيجعل النور في الجهتين شعاراً لهم وآية لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعون سعي بسعيهم ذلك النور وتقول لهم الملائكة ‏{‏بُشْرَاكُمُ اليوم جنات‏}‏ أي دخول جنات لأن البشارة تقع بالأحداث دون الجثث ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 24‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ‏(‏13‏)‏ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏14‏)‏ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏15‏)‏ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏16‏)‏ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ‏(‏18‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏19‏)‏ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏20‏)‏ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏21‏)‏ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏22‏)‏ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏23‏)‏ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ يَقُولُ‏}‏ هو بدل من ‏{‏يَوْمَ تَرَى‏}‏ ‏{‏المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ ءامَنُواْ انظرونا‏}‏ أي انتظرونا لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة‏.‏ ‏{‏أَنظُرُونَا‏}‏ حمزة من النظرة وهي الإمهال جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظاراً لهم ‏{‏نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ‏}‏ نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به ‏{‏قِيلَ ارجعوا وَرَاءكُمْ فالتمسوا نُوراً‏}‏ طرد لهم وتهكم بهم أي تقول لهم الملائكة، أو المؤمنون ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك فمن ثم يقتبس، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان ‏{‏فَضُرِبَ بَيْنَهُم‏}‏ بين المؤمنين والمنافقين ‏{‏بِسُورٍ‏}‏ بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار‏.‏ قيل‏:‏ هو الأعراف ‏{‏لَهُ‏}‏ لذلك السور ‏{‏بَابٍ‏}‏ لأهل الجنة يدخلون منه ‏{‏بَاطِنُهُ‏}‏ باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة ‏{‏فِيهِ الرحمة‏}‏ أي النور أو الجنة ‏{‏وظاهره‏}‏ ما ظهر لأهل النار ‏{‏مِن قِبَلِهِ‏}‏ من عنده ومن جهته ‏{‏العذاب‏}‏ أي الظلمة أو النار ‏{‏ينادونهم‏}‏ أي ينادي المنافقون المؤمنين ‏{‏أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ‏}‏ يريدون مرافقتهم في الظاهر ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي المؤمنون ‏{‏بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ محنتموها بالنفاق وأهلكتموها ‏{‏وَتَرَبَّصْتُمْ‏}‏ بالمؤمنين الدوائر ‏{‏وارتبتم‏}‏ وشككتم في التوحيد ‏{‏وَغرَّتْكُمُ الأمانى‏}‏ طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار ‏{‏حتى جَاء أَمْرُ الله‏}‏ أي الموت ‏{‏وَغَرَّكُم بالله الغرور‏}‏ وغركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم أو بأنه لا بعث ولا حساب‏.‏

‏{‏فاليوم لاَ يُؤْخَذُ‏}‏ وبالتاء‏:‏ شامي ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ أيها المنافقون ‏{‏فِدْيَةٌ‏}‏ ما يفتدى به ‏{‏وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النار‏}‏ مرجعكم ‏{‏هِىَ مولاكم‏}‏ هي أولى بكم وحقيقة مولاكم محراكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما يقال‏:‏ هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل إنه لكريم ‏{‏وَبِئْسَ المصير‏}‏ النار‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَأْنِ‏}‏ من أنى الأمر يأنى إذا جاء إناه أي وقته‏.‏ قيل‏:‏ كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت‏.‏ وعن ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين‏.‏ وعن ابن أبي بكر رضي الله عنه‏:‏ إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم فقال‏:‏ هكذا كنا حتى قست القلوب ‏{‏لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق‏}‏ بالتخفيف‏:‏ نافع وحفص‏.‏ الباقون ‏{‏نَزَّلَ‏}‏ و«ما» بمعنى «الذي»، والمراد بالذكر وما نزل من الحق القرآن لأنه جامع للأمرين للذكر والموعظة وأنه حق نازل من السماء ‏{‏وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ‏}‏ القراءة بالياء عطف على ‏{‏تَخْشَعَ‏}‏ وبالتاء‏:‏ ورش على الالتفاف، ويجوز أن يكون نهياً لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره ‏{‏فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد‏}‏ الأجل أو الزمان ‏{‏فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ باتباع الشهوات ‏{‏وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون‏}‏ خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين أي وقليل منهم مؤمنون ‏{‏اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ قيل‏:‏ هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض‏.‏

‏{‏إِنَّ المصدقين والمصدقات‏}‏ بتشديد الدال وحده‏:‏ مكي وأبو بكر وهو اسم فاعل من «صدق» وهم الذين صدقوا الله ورسوله يعني المؤمنين‏.‏ الباقون بتشديد الصاد والدال وهو اسم فاعل من «تصدق» فأدغمت التاء في الصاد وقرئ على الأصل ‏{‏وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً‏}‏ هو عطف على معنى الفعل في ‏{‏المصدقين‏}‏ لأن اللام بمعنى «الذين» واسم الفاعل بمعنى الفعل وهو اصدقوا كأنه قيل‏:‏ إن الذين اصدقوا وأقرضوا والقرض الحسن أن يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة ‏{‏يُضَاعَفُ لَهُمُ‏}‏ ‏{‏يضعف‏}‏ مكي وشامي ‏{‏وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏}‏ أي الجنة ‏{‏والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ يريد أن المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله ‏{‏لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ‏}‏ أي مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم، ويجوز أن يكون ‏{‏والشهداء‏}‏ مبتدأ و‏{‏لَهُمْ أَجْرُهُمْ‏}‏ خبره ‏{‏والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أولئك أصحاب الجحيم‏}‏‏.‏

‏{‏اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ‏}‏ كلعب الصبيان ‏{‏وَلَهْوٌ‏}‏ كلهو الفتيان ‏{‏وَزِينَةٌ‏}‏ كزينة النسوان ‏{‏وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ‏}‏ كتفاخر الأقران ‏{‏وَتَكَاثُرٌ‏}‏ كتكاثر الدهقان ‏{‏فِى الأموال والأولاد‏}‏ أي مباهاة بهما والتكاثر ادعاء الاستكثار ‏{‏كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً‏}‏ بعد خضرته ‏{‏ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً‏}‏ متفتتاً، شبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى وقوي وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة فهاج واصفر وصار حطاماً عقوبة لهم على جحودهم كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين‏.‏ وقيل‏:‏ الكفار الزراع ‏{‏وَفِى الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ للكفار ‏{‏وَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله ورضوان‏}‏ للمؤمنين يعني أن الدنيا وما فيها ليست إلا من محقرات الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر، وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام وهي العذاب الشديد والمغفرة والرضوان من الله الحميد‏.‏

والكاف في ‏{‏كَمَثَلِ غَيْثٍ‏}‏ في محل رفع على أنه خبر بعد خبر أي الحياة الدنيا مثل غيث ‏{‏وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور‏}‏ لمن ركن إليها واعتمد عليها‏.‏ قال ذو النون‏:‏ يا معشر المريدين لا تطلبوا الدنيا وإن طلبتموها فلا تحبوها فإن الزاد منها والمقيل في غيرها‏.‏

ولما حقر الدنيا وصغر أمرها وعظم أمر الآخرة بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة بقوله ‏{‏سَابِقُواْ‏}‏ أي بالأعمال الصالحة ‏{‏إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ وقيل‏:‏ سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار ‏{‏وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض‏}‏ قال السدي‏:‏ كعرض سبع السماوات وسبع الأرضين‏.‏ وذكر العرض دون الطول لأن كل ماله عرض وطول فإن عرضه أقل من طوله، فإذا وصف عرضه بالبسطة عرف أن طوله أبسط، أو أريد بالعرض البسطة وهذا ينفي قول من يقول‏:‏ إن الجنة في السماء الرابعة، لأن التي في إحدى السماوات لا تكون في عرض السماوات والأرض ‏{‏أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ‏}‏ وهذا دليل على أنها مخلوقة ‏{‏ذلك‏}‏ الموعود من المغفرة والجنة ‏{‏فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏ وهم المؤمنون، وفيه دليل على أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏‏.‏

ثم بين أن كل كائن بقضاء الله وقدره بقوله ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأرض‏}‏ من الجدب وآفات الزروع والثمار‏.‏ وقوله ‏{‏فِى الأرض‏}‏ في موضع الجر أي ما أصاب من مصيبة ثابتة في الأرض ‏{‏وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ‏}‏ من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب‏}‏ في اللوح وهو في موضع الحال أي إلا مكتوباً في اللوح ‏{‏مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا‏}‏ من قبل أن نخلق الأنفس ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ إن تقدير ذلك وإثباته في كتاب ‏{‏عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ وإن كان عسيراً على العباد‏.‏ ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه بقوله‏:‏

‏{‏لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ‏}‏ تحزنوا حزناً يطغيكم ‏{‏على مَا فَاتَكُمْ‏}‏ من الدنيا وسعتها أو من العافية وصحتها ‏{‏وَلاَ تَفْرَحُواْ‏}‏ فرح المختال الفخور ‏{‏بِمَا ءاتاكم‏}‏ أعطاكم من الإيتاء‏.‏ أبو عمرو وأتاكم أي جاءكم من الإتيان يعني أنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدر مكتوب عند الله، قل أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي، لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة لم يتفاقم جزعه عند فقده لأنه وطن نفسه على ذلك، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه وأن وصوله لا يفوته بحال لم يعظم فرحه عند نيله، وليس أحد إلا وهو يفرح عند منفعة تصيبه ويحزن عند مضرة تنزل به ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكراً والحزن صبراً، وإنما يذم من الحزن الجزع المنافي للصبر ومن الفرح الأشر المطغي الملهي عن الشكر ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏ لأن من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه اختال وافتخر به وتكبر على الناس ‏{‏الذين يَبْخَلُونَ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أو بدل من كل مختال فخور كأنه قال‏:‏ لا يحب الذين يبخلون، يريد الذين يفرحون الفرح المطغي إذا رزقوا مالاً وحظاً من الدنيا، فلحبهم له وعزته عندهم يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به ‏{‏وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل‏}‏ ويحضون غيرهم على البخل ويرغبونهم في الإمساك ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ‏}‏ يعرض عن الإنفاق أو عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي ‏{‏فَإِنَّ الله هُوَ الغنى‏}‏ عن جميع المخلوقات فكيف عنه‏؟‏ ‏{‏الحميد‏}‏ في أفعاله‏.‏

‏{‏فَإِنَّ الله الغنى‏}‏ بترك «هو»‏:‏ مدني وشامي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏27‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏28‏)‏ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا‏}‏ يعني أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء ‏{‏بالبينات‏}‏ بالحجج والمعجزات ‏{‏وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب‏}‏ أي الوحي‏.‏ وقيل‏:‏ الرسل الأنبياء‏.‏ والأول أولى لقوله ‏{‏مَعَهُمْ‏}‏ لأن الأنبياء ينزل عليهم الكتاب ‏{‏والميزان‏}‏ رُوي أن جبريل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال‏:‏ مر قومك يزنوا به ‏{‏لِيَقُومَ الناس‏}‏ ليتعاملوا بينهم إيفاء واستيفاء ‏{‏بالقسط‏}‏ بالعدل ولا يظلم أحد أحداً ‏{‏وَأَنزْلْنَا الحديد‏}‏ قيل‏:‏ نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد‏:‏ السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة‏.‏ ورُوي ومعه المرّ والمسحاة‏.‏ وعن الحسن‏:‏ وأنزلنا الحديد خلقناه ‏{‏فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ‏}‏ وهو القتال به ‏{‏ومنافع لِلنَّاسِ‏}‏ في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها أو ما يعمل بالحديد ‏{‏وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ‏}‏ باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ليعلم الله من يقاتل مع رسوله في سبيله ‏{‏بالغيب‏}‏ غائباً عنهم ‏{‏إِنَّ الله قَوِىٌّ‏}‏ يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ يربط بعزته جأش من يتعرض لنصرته‏.‏ والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة أن الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية يبين سبل المراشد والعهود ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، ويأمر بالعدل والإحسان وينهى عن البغي والطغيان، واستعمال العدل والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة يقع بها التعامل ويحصل بها التساوي والتعادل وهي الميزان‏.‏ ومن المعلوم أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية والآلة الموضوعة للتعامل بالسوية إنما تحض العامة على اتباعهما بالسيف الذي هو حجة الله على من جحد وعنَدَ، ونزع عن صفقة الجماعة اليد‏.‏ وهو الحديد الذي وصف بالبأس الشديد‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم‏}‏ خصا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام ‏{‏وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا‏}‏ أولادهما ‏{‏النبوة والكتاب‏}‏ الوحي‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ الخط بالقلم‏.‏ يقال‏:‏ كتب كتاباً وكتابة ‏{‏فَمِنْهُمْ‏}‏ فمن الذرية أو من المرسل إليهم وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين ‏{‏مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون‏}‏ هذا تفصيل لحالهم أي فمنهم من اهتدى باتباع الرسل، ومنهم من فسق أي خرج عن الطاعة والغلبة للفساق‏.‏

‏{‏ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم‏}‏ أي نوح وإبراهيم ومن مضى من الأنبياء ‏{‏بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وءاتيناه الإنجيل وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً‏}‏ مودة وليناً ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ تعطفاً على إخوانهم كما قال في صفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏رُحَمَاء بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ ‏{‏وَرَهْبَانِيَّةً‏}‏ هي ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين مخلصين أنفسهم للعبادة وهي الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف‏.‏ فعلان من رهب كخشيان من خشي‏.‏

وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره وابتدعوا رهبانية ‏{‏ابتدعوها‏}‏ أي أخرجوها من عند أنفسهم ونذروها ‏{‏مَا كتبناها عَلَيْهِمْ‏}‏ لم نفرضها نحن عليهم ‏{‏إِلاَّ ابتغاء رضوان الله‏}‏ استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ‏{‏فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏ كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه ‏{‏فَئَاتَيْنَا الذين ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ‏}‏ أي أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام والذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون‏}‏ الكافرون‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ‏}‏ الخطاب لأهل الكتاب ‏{‏اتقوا الله وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏يُؤْتِكُمْ‏}‏ الله ‏{‏كِفْلَيْنِ‏}‏ نصيبين ‏{‏مّن رَّحْمَتِهِ‏}‏ لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيمانكم بمن قبله ‏{‏وَيَجْعَل لَّكُمْ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏نُوراً تَمْشُونَ بِهِ‏}‏ وهو النور المذكور في قوله ‏{‏يسعى نُورُهُم‏}‏ الآية ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ ذنوبكم ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ لّئَلاَّ يَعْلَمَ‏}‏ ليعلم ‏{‏أَهْلِ الكتاب‏}‏ الذين لم يسلموا و«لا» مزيدة ‏{‏أَلاَّ يَقْدِرُونَ‏}‏ «أن» مخففة من الثقيلة أصله أنه لا يقدرون يعني أن الشأن لا يقدرون ‏{‏على شَئ مّن فَضْلِ الله‏}‏ أي لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضل الله من الكفلين والنور والمغفرة لأنهم لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ولم يكسبهم فضلاً قط ‏{‏وَأَنَّ الفضل‏}‏ عطف على ‏{‏أَن لا يَقْدِرُونَ‏}‏ ‏{‏بِيَدِ الله‏}‏ أي في ملكه وتصرفه ‏{‏يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏ من عباده ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏، والله أعلم‏.‏

سورة المجادلة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏3‏)‏ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏4‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏6‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ‏}‏ تحاورك وقرئ بها، وهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم، فلما سلمت راودها فأبت فغضب فظاهر منها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ فلما خلا سني ونثرت بطني أي كثر ولدي جعلني عليه كأمه‏.‏ ورُوي أنها قالت‏:‏ إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما عندي في أمرك شيء ‏"‏ وروي أنه قال لها‏:‏ ‏"‏ حرمت عليه ‏"‏ فقالت‏:‏ يا رسول الله ما ذكر طلاقاً وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إليّ‏.‏ فقال‏:‏ حرمت عليه فقالت‏:‏ أشكو إلى الله فاقتي ووجدي فكلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ حرمت عليه ‏"‏ هتفت وشكت فنزلت ‏{‏فِى زَوْجِهَا‏}‏ في شأنه ومعناه ‏{‏وَتَشْتَكِى إِلَى الله‏}‏ تظهر ما بها من المكروه ‏{‏والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما‏}‏ مراجعتكما الكلام من حار إذا رجع ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ يسمع شكوى المضطر ‏{‏بَصِيرٌ‏}‏ بحاله ‏{‏الذين يظاهرون‏}‏ عاصم ‏{‏يظَّهرون‏}‏‏:‏ حجازي وبصري غيرهم ‏{‏يظاهرون‏}‏ وفي ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ توبيخ للعرب لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم ‏{‏مِن نّسَائِهِمْ‏}‏ زوجاتهم ‏{‏مَّا هُنَّ أمهاتهم‏}‏ أمهاتهم المفضل، الأول حجازي والثاني تميمي ‏{‏إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ‏}‏ يريد أن الأمهات على الحقيقة الوالدات والمرضعات ملحقات بالوالدات بواسطة الرضاع، وكذا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيادة حرمتهن، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة فلذا قال ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ القول‏}‏ تنكره الحقيقة والأحكام الشرعية ‏{‏وَزُوراً‏}‏ وكذباً باطلاً منحرفاً عن الحق ‏{‏وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏ لما سلف منهم‏.‏

‏{‏والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ‏}‏ بين في الآية الأولى أن ذلك من قائله منكر وزور، وبين في الثانية حكم الظهار ‏{‏ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ‏}‏ العود الصيرورة ابتداء أو بناء فمن الأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى عَادَ كالعرجون القديم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 39‏]‏‏.‏ ومن الثاني‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 8‏]‏ ويعدى بنفسه كقولك‏:‏ عدته إذا أتيته وصرت إليه، وبحرف الجر ب «إلى» وعلى وفي واللام كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏ ومنه ‏{‏ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ‏}‏ أي يعودون لنقض ما قالوا أو لتداركه على حذف المضاف، وعن ثعلبة‏:‏ يعودون لتحليل ما حرموا على حذف المضاف أيضاً غير أنه أراد بما قالوا ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه كقوله ‏{‏وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 80‏]‏ أراد المقول فيه وهو المال والولد‏.‏

ثم اختلفوا أن النقض بماذا يحصل‏؟‏ فعندنا بالعزم على الوطء وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة، وعند الشافعي بمجرد الإمساك وهو أن لا يطلقها عقيب الظهار‏.‏

‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ فعليه اعتاق رقبة مؤمنة أو كافرة ولم يجز المدبر وأم الولد والمكاتب الذي أدى شيئاً ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا‏}‏ الضمير يرجع إلى ما دل عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها‏.‏ والمماسة الاستمتاع بها من جماع أو لمس بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة ‏{‏ذلكم‏}‏ الحكم ‏{‏تُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله عليه ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ والظهار أن يقول الرجل لامرأته‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي‏.‏ وإذا وضع موضع أنت عضواً منها يعبر به عن الجملة أو مكان الظهر عضواً آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ، أو مكان الأم ذات رحم محرم منه بنسب أو رضاع أو صهر أو جماع نحو أن يقول‏:‏ أنت عليّ كظهر أختي من الرضاع، أو عمتي من النسب، أو امرأة ابني، أو أبي أو أم امرأتي أو ابنتها فهو مظاهر، وإذا امتنع المظاهر من الكفارة للمرأة أن ترافعه، وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر وأن يحبسه، ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار لأنه يضر بها في ترك التكفير‏.‏ والامتناع من الاستمتاع فإن مس قبل أن يكفر استغفر الله ولا يعود حتى يكفر، وإن أعتق بعض الرقبة ثم مس عليه أن يستأنف عند أبي حنيفة رضي الله عنه‏.‏

‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ‏}‏ الرقبة ‏{‏فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ‏}‏ فعليه صيام شهرين ‏{‏مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ‏}‏ الصيام ‏{‏فَإِطْعَامُ‏}‏ فعليه إطعام ‏{‏سِتّينَ مِسْكِيناً‏}‏ لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من غيره، ويجب أن يقدمه على المسيس ولكن لا يستأنف إن جامع في خلال الإطعام ‏{‏ذلك‏}‏ البيان والتعليم للأحكام ‏{‏لّتُؤْمِنُواْ‏}‏ لتصدقوا ‏{‏بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ في العمل بشرائعه التي شرعها من الظهار وغيره ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم ‏{‏وَتِلْكَ‏}‏ أي الأحكام التي وصفنا في الظهار والكفارة ‏{‏حُدُودَ الله‏}‏ التي لا يجوز تعديها ‏{‏وللكافرين‏}‏ الذين لا يتبعونها ‏{‏عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ مؤلم ‏{‏إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ يعادون ويشاقون ‏{‏كُبِتُواْ‏}‏ أخزوا وأهلكوا ‏{‏كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ من أعداء الرسل ‏{‏وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات‏}‏ تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به ‏{‏وللكافرين‏}‏ بهذه الآيات ‏{‏عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ يذهب بعزهم وكبرهم ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ‏}‏ منصوب ب ‏{‏مُّهِينٌ‏}‏ أو بإضمار «اذكر» تعظيماً لليوم ‏{‏الله جَمِيعًا‏}‏ كلهم لا يترك منهم أحداً غير مبعوث أو مجتمعين في حال واحدة ‏{‏فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ تخجيلاً لهم وتوبيخاً وتشهيراً بحالهم يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار لما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد ‏{‏أحصاه الله‏}‏ أحاط به عدداً لم يفته منه شيء ‏{‏وَنَسُوهُ‏}‏ لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه وإنما تحفظ معظمات الأمور ‏{‏والله على كُلّ شَئ شَهِيدٌ‏}‏ لا يغيب عنه شيء‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض مَا يَكُونُ‏}‏ من «كان» التامة أي ما يقع ‏{‏مِن نجوى ثلاثة‏}‏ النجوى التناجي وقد أضيفت إلى ثلاثة أي من نجوى ثلاثة نفر ‏{‏إِلاَّ هُوَ‏}‏ أي الله ‏{‏رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدنى‏}‏ ولا أقل ‏{‏مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ‏}‏ يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عليه ما هم فيه وقد تعالى عن المكان علواً كبيراً وتخصيص الثلاثة والخمسة لأنها نزلت في المنافقين وكانوا يتحلقون للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين‏.‏ وقيل‏:‏ ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة ولا أدنى من عدديهم ولا أكثر إلا والله معهم يسمع ما يقولون، ولأن أهل التناجي في العادة طائفة من أهل الرأي والتجارب، وأول عددهم الاثنان فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال، فذكر عز وعلا الثلاثة والخمسة وقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ‏}‏ فدل على الاثنين والأربعة، وقال ‏{‏وَلاَ أَكْثَرَ‏}‏ فدل على ما يقارب هذا العدد ‏{‏أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة‏}‏ فيجازيهم عليه ‏{‏إِنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 22‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏13‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏14‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏16‏)‏ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏18‏)‏ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏19‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ‏(‏20‏)‏ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏21‏)‏ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول‏}‏ كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين ويريدون أن يغيظوهم ويوهموهم في نجواهم وتغامزهم أن غزاتهم غلبوا وأن أقاربهم قتلوا، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادوا لمثل فعلهم وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول ومخالفته، ‏{‏وينتجون‏}‏ حمزة وهو بمعنى الأول ‏{‏وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله‏}‏ يعني أنهم يقولون في تحيتك‏:‏ السام عليك يا محمد‏.‏ والسام الموت والله تعالى يقول ‏{‏وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى‏}‏ النمل‏:‏ 59‏)‏، ‏{‏ياأيها الرسول‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏، ‏{‏ياأيها النبى‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ‏}‏ أي يقولون فيما بينهم لو كان نبياً لعاقبنا الله بما نقوله فقال الله تعالى ‏{‏حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏ عذاباً ‏{‏يَصْلَوْنَهَا‏}‏ حال أي يدخلونها ‏{‏فَبِئْسَ المصير‏}‏ المرجع جهنم‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ‏}‏ بألسنتهم وهو خطاب للمنافقين والظاهر أنه خطاب للمؤمنين ‏{‏إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول‏}‏ أي إذا تناجيتم فلا تشبهوا باليهود والمنافقين في تناجيهم بالشر ‏{‏وتناجوا بالبر‏}‏ بأداء الفرائض والطاعات ‏{‏والتقوى‏}‏ وترك المعاصي ‏{‏واتقوا الله الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ للحساب فيجازيكم بما تتناجون به من خير أو شر ‏{‏إِنَّمَا النجوى‏}‏ بالإثم والعدوان ‏{‏مِنَ الشيطان‏}‏ من تزيينه ‏{‏لِيَحْزُنَ‏}‏ أي الشيطان وبضم الياء‏:‏ نافع ‏{‏الذين ءامَنُواْ وَلَيْسَ‏}‏ الشيطان أو الحزن ‏{‏بِضَارّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ بعلمه وقضائه وقدره ‏{‏وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ أي يكلون أمرهم إلى الله ويستعيذون به من الشيطان‏.‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس‏}‏ ‏(‏في المجلس‏)‏ توسعوا فيه، ‏{‏فِى المجالس‏}‏ عاصم ونافع والمراد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يتضامون فيه تنافساً على القرب منه وحرصاً على استماع كلامه‏.‏ وقيل‏:‏ هو المجلس من مجالس القتال وهي مراكز الغزاة كقوله ‏{‏مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 121‏]‏‏.‏ مقاتل في صلاة الجمعة ‏{‏فافسحوا‏}‏ فوسعوا ‏{‏يَفْسَحِ الله لَكُمْ‏}‏ مطلق في كل ما يبتغي الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر غير ذلك ‏{‏وَإِذَا قِيلَ انشزوا‏}‏ انهضوا للتوسعة على المقبلين، أو انهضوا عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتم بالنهوض عنه، أو انهضوا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير ‏{‏فَانشُزُواْ‏}‏ بالضم فيهما‏:‏ مدني وشامي وعاصم غير حماد ‏{‏يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ‏}‏ بامتثال أوامره وأوامر رسوله ‏{‏والذين أُوتُواْ العلم‏}‏ والعالمين منهم خاصة ‏{‏درجات والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ وفي الدرجات قولان‏:‏ أحدهما في الدنيا في المرتبة والشرف، والآخر في الآخرة‏.‏

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال‏:‏ يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عبادة العالم يوماً واحداً تعدل عبادة العابد أربعين سنة» وعنه صلى الله عليه وسلم «يشفع يوم القيامة ثلاثة‏:‏ الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏!‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ خير سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم» وعن بعض الحكماء‏:‏ ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم، وأي شيء فات من أدرك العلم‏.‏ وعن الزبيري‏:‏ العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال، والعلوم أنواع فأشرها أشرفها معلوماً‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول‏}‏ إذا أردتم مناجاته ‏{‏فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً‏}‏ أي قبل نجواكم وهي استعارة ممن له يدان كقول عمر رضي الله عنه‏:‏ من أفضل ما أوتيت العرب الشعر يقدمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم يريد قبل حاجته ‏{‏ذلك‏}‏ التقديم ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ في دينكم ‏{‏وَأَطْهَرُ‏}‏ لأن الصدقة طهرة ‏{‏فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ‏}‏ ما تتصدقون به ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ في ترخيص المناجاة من غير صدقة‏.‏ قيل‏:‏ كان ذلك عشر ليال ثم نسخ‏.‏ وقيل‏:‏ ما كان إلا ساعة من نهار ثم نسخ‏.‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ هذه آية من كتاب الله ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر مسائل فأجابني عنها‏.‏ قلت‏:‏ يا رسول الله ما الوفاء‏؟‏ قال‏:‏ «التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله» قلت‏:‏ وما الفساد‏؟‏ قال‏:‏ «الكفر والشرك بالله» قلت‏:‏ وما الحق‏؟‏ قال‏:‏ «الإسلام والقرآن والولاية إذا انتهت إليك» قلت‏:‏ وما الحيلة‏؟‏ قال‏:‏ «ترك الحيلة» قلت‏:‏ وما عليّ‏؟‏ قال‏:‏ «طاعة الله وطاعة رسوله» قلت‏:‏ وكيف أدعو الله تعالى‏؟‏ قال‏:‏ «بالصدق واليقين» قلت‏:‏ وماذا أسأل الله‏؟‏ قال‏:‏ «العافية» قلت‏:‏ وما أصنع لنجاة نفسي‏؟‏ قال‏:‏ «كل حلالاً وقل صدقاً» قلت‏:‏ وما السرور‏؟‏ قال‏:‏ «الجنة» قلت‏:‏ وما الراحة‏؟‏ قال‏:‏

«لقاء الله» فلما فرغت منها نزل نسخها‏.‏

‏{‏ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات‏}‏ أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي تكرهونه ‏{‏فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ‏}‏ ما أمرتم به وشق عليكم ‏{‏وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ أي خفف عنكم وأزال عنكم المؤاخذة بترك تقديم الصدقة على المناجاة كما أزال المؤاخذة بالذنب عن التائب عنه ‏{‏فَأَقِمُواْ الصلاوة وَءَاتُواْ الزكاوة وَأَطِعُواْ الله وَرَسُولِهُ‏}‏ أي فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات ‏{‏والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ وهذا وعد ووعيد‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم‏}‏ كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله ‏{‏مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 60‏]‏ وينقلون إليهم أسرار المؤمنين ‏{‏مَّا هُم مّنكُمْ‏}‏ يا مسلمون ‏{‏وَلاَ مِنْهُمْ‏}‏ ولا من اليهود كقوله‏:‏ ‏{‏مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 143‏]‏ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب‏}‏ أي يقولون والله إنا لمسلمون لا منافقون ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنهم كاذبون منافقون ‏{‏أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً‏}‏ نوعاً من العذاب متفاقماً ‏{‏إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي إنهم كانوا في الزمان الماضي مصرين على سوء العمل أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة‏.‏

‏{‏اتخذوا أيمانهم‏}‏ الكاذبة ‏{‏جَنَّةُ‏}‏ وقاية دون أموالهم ودمائهم ‏{‏فَصَدُّواْ‏}‏ الناس في خلال أمنهم وسلامتهم ‏{‏عَن سَبِيلِ الله‏}‏ عن طاعته والإيمان به ‏{‏فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ وعدهم العذاب المخزي لكفرهم وصدهم كقوله ‏{‏الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏ ‏{‏لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله‏}‏ من عذاب الله ‏{‏شَيْئاً‏}‏ قليلاً من الإغناء ‏{‏أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ‏}‏ أي لله في الآخرة أنهم كانوا مخلصين في الدنيا غير منافقين ‏{‏كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ‏}‏ في الدنيا على ذلك ‏{‏وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ‏}‏ في الدنيا ‏{‏على شَئ‏}‏ من النفع أو يحسبون أنهم على شيء من النفع ثم بأيمانهم الكاذبة كما انتفعوا ههنا ‏{‏أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون‏}‏ حيث استوت حالهم فيه في الدنيا والآخرة‏.‏

‏{‏استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان‏}‏ استولى عليهم ‏{‏فأنساهم ذِكْرَ الله‏}‏ قال شاه الكرماني‏:‏ علامة استحواذ الشيطان على العبد أن يشغله بعمارة ظاهره من المآكل والمشارب والملابس، ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمائه والقيام بشكرها، ويشغل لسانه عن ذكر ربه بالكذب والغيبة والبهتان، ويشغل لبه عن التفكر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها ‏{‏أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان‏}‏ جنده ‏{‏أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِى الأذلين‏}‏ في جملة من هو أذل خلق الله تعالى لا ترى أحداً أذل منهم ‏{‏كتاب الله‏}‏ في اللوح ‏{‏لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى‏}‏ بالحجة والسيف أو بأحدهما ‏{‏إِنَّ الله قَوِىٌّ‏}‏ لا يمتنع عليه ما يريد ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ غالب غير مغلوب‏.‏

‏{‏لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ‏}‏ هو مفعول ثان ل ‏{‏تَجِدُ‏}‏ أو حال أو صفة ل ‏{‏قَوْماً‏}‏ وتجد بمعنى تصادف على هذا ‏{‏مَنْ حَادَّ الله‏}‏ خالفه وعاداه ‏{‏وَرَسُولُهُ‏}‏ أي من الممتنع أن تجد قوماً مؤمنين يوالون المشركين، والمراد أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في الزجر عن مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراز عن مخالطتهم ومعاشرتهم‏.‏ وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ‏}‏ وبقوله ‏{‏أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان‏}‏ أي أثبته فيها وبمقابلة قوله ‏{‏أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان‏}‏ بقوله ‏{‏أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله‏}‏ ‏{‏وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ‏}‏ أي بكتاب أنزله فيه حياة لهم، ويجوز أن يكون الضمير للإيمان أي بروح من الإيمان على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به‏.‏ وعن الثوري أنه قال‏:‏ كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان‏.‏ وعن عبد العزيز بن أبي رواد أنه لقيه المنصور فلما عرفه هرب منه وتلاها‏.‏ وقال سهل‏:‏ من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس بمبتدع ولا يجالسه ويظهر له من نفسه العداوة، ومن داهن مبتدعاً سلبه الله حلاوة السنن، ومن أجاب مبتدعاً لطلب عز الدنيا أو غناها أذله الله بذلك العز وأفقره بذلك الغنى، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله نور الإيمان من قلبه، ومن لم يصدق فليجرب‏.‏ ‏{‏وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا رَضِىَ الله عَنْهُمْ‏}‏ بتوحيدهم الخالص وطاعتهم ‏{‏وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ بثوابه الجسيم في الآخرة أو بما قضى عليهم في الدنيا ‏{‏أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله‏}‏ أنصار حقه ودعاة خلقه ‏{‏أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون‏}‏ الباقون في النعيم المقيم الفائزون بكل محبوب الآمنون من كل مرهوب‏.‏

سورة الحشر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏2‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ‏(‏3‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏4‏)‏ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏6‏)‏ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏7‏)‏ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏8‏)‏ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ رُوي أن هذه السورة نزلت بأسرها في بني النضير، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة صالح بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا‏:‏ هو النبي الذي نعته في التوراة، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة فحالف أبا سفيان عند الكعبة فأمر صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعباً غيلة، ثم خرج صلى الله عليه وسلم مع الجيش إليهم فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة وأمر بقطع نخيلهم، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم، فجلوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات‏.‏

‏{‏هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ يعني يهود بني النضير ‏{‏مِن ديارهم‏}‏ بالمدينة‏.‏ واللام في ‏{‏لأَِوَّلِ الحشر‏}‏ تتعلق ب ‏{‏أَخْرَجَ‏}‏ وهي اللام في قوله تعالى ‏{‏ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 24‏]‏ وقولك جئته لوقت كذا‏.‏ أي أخرج الذين كفروا عند أول الحشر‏.‏ ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشأم وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط، وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشأم، أو هذا أول حشرهم، وآخر حشرهم إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام، أو آخر حشرهم حشر يوم القيامة‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ من شك أن المحشر بالشأم فليقرأ هذه الآية، فهم الحشر الأول وسائر الناس الحشر الثاني‏.‏ وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لما خرجوا ‏"‏ امضوا فإنكم أول الحشر ونحن على الأثر ‏"‏ قتادة‏:‏ إذا كان آخر الزمان جاءت نار من قبل المشرق فحشرت الناس إلى أرض الشأم وبها تقوم عليهم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أخرجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ‏}‏ لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله‏}‏ أي ظنوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله‏.‏ والفرق بين هذا التركيب وبين النظم الذي جاء عليه أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلاً على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم اسماً ل«أَن» وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في مغازاتهم، وليس ذلك في قولك «وظنوا أن حصونهم تمنعهم»‏.‏

‏{‏فأتاهم الله‏}‏ أي أمر الله وعقابه وفي الشواذ «فآتاهم الله» أي فآتاهم الهلاك ‏{‏مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ‏}‏ من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرة على يد أخيه رضاعاً‏.‏

‏{‏وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب‏}‏ الخوف ‏{‏يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين‏}‏ ‏{‏يُخْرِبُونَ‏}‏ أبو عمرو‏.‏ والتخريب والإخراب الإفساد بالنقض والهدم، والخَرُبة الفساد وكانوا يخرّبون بواطنها والمسلمون ظواهرها لما أراد الله من استئصال شأفتهم وأن لا تبقى لهم بالمدينة دار ولا منهم ديّار، والذي دعاهم إلى التخريب حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدوا بها أفواه الأزقة، وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها مساكن للمسلمين، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيد الخشب والساج‏.‏ وأما المؤمنون فداعيهم إلى التخريب إزالة متحصنهم وأن يتسع لهم مجال الحرب‏.‏ ومعنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين أنهم لما عرضوهم بنكث العهد لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه ‏{‏فاعتبروا ياأولى الأبصار‏}‏ أي فتأملوا فيما نزل بهؤلاء والسبب الذي استحقوا به ذلك فاحذروا أن تفعلوا مثل فعلهم فتعاقبوا بمثل عقوبتهم، وهذا دليل على جواز القياس ‏{‏وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء‏}‏ الخروج من الوطن مع الأهل والولد ‏{‏لَعَذَّبَهُمْ فِى الدنيا‏}‏ بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة ‏{‏وَلَهُمْ‏}‏ سواء أجلوا أو قتلوا ‏{‏فِى الآخرة عَذَابُ النار‏}‏ الذي لا أشد منه ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ‏}‏ أي إنما أصابهم ذلك بسبب أنهم ‏{‏شَاقُّواْ الله‏}‏ خالفوه ‏{‏وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقّ الله‏}‏ ورسوله ‏{‏فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏‏.‏

‏{‏مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ‏}‏ هو بيان ل ‏{‏مَا قَطَعْتُمْ‏}‏ ومحل «ما» نصب ب ‏{‏قَطَعْتُمْ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ أي شيء قطعتم وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله ‏{‏أَوْ تَرَكْتُمُوهَا‏}‏ لأنه في معنى اللينة، واللينة‏:‏ النخلة من الألوان وياؤها عن واو قلبت لكسرة ما قبلها‏.‏ وقيل‏:‏ اللينة النخلة الكريمة كأنهم اشتقوها من اللين ‏{‏قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله‏}‏ فقطعها وتركها بإذن الله ‏{‏وَلِيُخْزِىَ الفاسقين‏}‏ وليذل اليهود ويغيظهم أذن في قطعها ‏{‏وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ‏}‏ جعله فيئاً له خاصة ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ من بني النضير ‏{‏فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ‏}‏ فلم يكن ذلك بإيجاف خيل أو ركاب منكم على ذلك والركاب الإبل، والمعنى فما أوجفتم على تحصيله وتغنيمه خيلاً ولا ركاباً ولا تعبتم في القتال عليه، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم لأنه على ميلين من المدينة، وكان صلى الله عليه وسلم على حمار فحسب ‏{‏ولكن الله يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاء‏}‏ يعني أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم، فالأمر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء ولا يقسمه قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهراً فقسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة منهم لفقرهم ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ وإنما لم يدخل العاطف على هذه الجملة لأنها بيان للأولى فهي منها غير أجنبية عنها، بين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوماً على الأقسام الخمسة، وزيف هذا القول بعض المفسرين وقال‏:‏ الآية الأولى نزلت في أموال بني النضير وقد جعلها الله لرسوله خاصة، وهذه الآية في غنائم كل قرية تؤخذ بقوة الغزاة، وفي الآية بيان مصرف خمسها فهي مبتدأة ‏{‏كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً‏}‏ ‏{‏تَكُونُ دُولَةً‏}‏ يزيد على «كان» التامة والدولة والدولة ما يدول للإنسان أي يدور من الجد‏.‏

ومعنى قوله ‏{‏لاَ يَكُونَ دُولَةً‏}‏ ‏{‏بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ‏}‏ كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطي الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها جداً بين الأغنياء يتكاثرون به ‏{‏وَمَا ءاتاكم الرسول‏}‏ أي أعطاكم من قسمة غنيمة أو فيء ‏{‏فَخُذُوهُ‏}‏ فاقبلوه ‏{‏وَمَا نهاكم عَنْهُ‏}‏ عن أخذه منها ‏{‏فانتهوا‏}‏ عنه ولا تطلبوه ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أن تخالفوه وتتهاونوا بأوامره ونواهيه ‏{‏أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ لمن خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والأجود أن يكون عاماً في كل ما آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه وأمر الفيء داخل في عمومه‏.‏

‏{‏لِلْفُقَرَاء‏}‏ بدل من قوله ‏{‏وَلِذِى القربى‏}‏ والمعطوف عليه، والذي منع الإبدال من ‏{‏لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ وإن كان المعنى لرسول الله إن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله ‏{‏وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ وأنه يترفع برسول الله عن التسمية بالفقير، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل ‏{‏المهاجرين الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن ديارهم وأموالهم‏}‏ بمكة، وفيه دليل على أن الكفار يملكون بالاستيلاء أموال المسلمين لأن الله تعالى سمى المهاجرين فقراء مع أنه كانت لهم ديار وأموال ‏{‏يَبْتَغُونَ‏}‏ حال ‏{‏فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً‏}‏ أي يطلبون الجنة ورضوان الله ‏{‏وينصرون الله ورسوله‏}‏ أي ينصرون دين الله ويعينون رسوله ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون‏}‏ في إيمانهم وجهادهم ‏{‏والذين‏}‏ معطوف على المهاجرين وهم الأنصار ‏{‏تَبَوَّءوا الدار‏}‏ توطنوا المدينة ‏{‏والإيمان‏}‏ وأخلصوا الإيمان كقوله‏:‏

علفتها تبناً وماء بارداً *** أو وجعلوا الإيمان مستقراً ومتوطناً لهم لتمكنهم واستقامتهم عليه كما جعلوا المدينة كذلك، أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه‏.‏

‏{‏مِن قَبْلِهِمُ‏}‏ من قبل المهاجرين لأنهم سبقوهم في تبوء دار الهجرة والإيمان‏.‏ وقيل‏:‏ من قبل هجرتهم ‏{‏يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ‏}‏ حتى شاطروهم أموالهم وأنزلوهم منازلهم، ونزل من كانت له امرأتان عن إحديهما حتى تزوج بها رجل من المهاجرين‏.‏

‏{‏وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ‏}‏ ولا يعلمون في أنفسهم طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره والمحتاج إليه يسمي حاجة يعني أن نفوسهم لم تتبع ما أعطوا ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه‏.‏ وقيل‏:‏ حاجة حسداً مما أعطي المهاجرون من الفيء حيث خصهم النبي صلى الله عليه وسلم به‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجدون في صدورهم مس حاجة من فقد ما أوتوا فحذف المضافان ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ‏}‏ فقر وأصلها خصاص البيت وهي فروجه، والجملة في موضع الحال أي مفروضة خصاصتهم‏.‏ روي أنه نزل برجل منهم ضيف فنوّم الصبية وقرّب الطعام وأطفأ المصباح ليشبع ضيفه ولا يأكل هو‏.‏ وعن أنس‏:‏ أهدى لبعضهم رأس مشوي وهو مجهود فوجهه إلى جاره فتداولته تسعة أنفس حتى عاد إلى الأول‏.‏ أبو زيد قال لي شاب من أهل بلخ‏:‏ ما الزهد عندكم‏؟‏ قلت‏:‏ إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا‏.‏ فقال‏:‏ هكذا عندنا كلاب بلخ بل إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا ‏{‏وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون‏}‏ الظافرون بما أرادوا‏.‏ الشح اللؤم وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع، وأما البخل فهو المنع نفسه‏.‏ وقيل‏:‏ الشح أكل مال أخيك ظلماً، والبخل منع مالك‏.‏ وعن كسرى‏:‏ الشح أضر من الفقر لأن الفقير يتسع إذا وجد بخلاف الشحيح‏.‏

‏{‏والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ عطف أيضاً على ‏{‏المهاجرين‏}‏ وهم الذين هاجروا من بعده‏.‏ وقيل‏:‏ التابعون بإحسان‏.‏ وقيل‏:‏ من بعدهم إلى يوم القيامة‏.‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ دخل في هذا الفيء كل من هو مولود إلى يوم القيامة في الإسلام، فجعل الواو للعطف فيهما‏.‏ وقرئ ‏{‏لِلَّذِينَ‏}‏ فيهما ‏{‏يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان‏}‏ قيل‏:‏ هم المهاجرون والأنصار‏.‏ عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ أمروا بأن يستغفروا لهم فسبوهم ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ‏}‏ حقداً ‏{‏لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ يعني الصحابة ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ وقيل لسعيد بن المسيب‏:‏ ما تقول في عثمان وطلحة والزبير‏؟‏ قال‏:‏ أقول ما قولنيه الله وتلى هذه الآية‏.‏ ثم عجب نبيه بقوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 24‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏11‏)‏ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏12‏)‏ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏13‏)‏ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏14‏)‏ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏15‏)‏ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏17‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏19‏)‏ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏22‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏23‏)‏ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا‏}‏ أي ألم تر يا محمد إلى عبد الله بن أبيّ وأشياعه ‏{‏يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ يعني بني النضير والمراد إخوة الكفر ‏{‏لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ‏}‏ من دياركم ‏{‏لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ‏}‏ رُوي أن ابن أبيّ وأصحابه دسوا إلى بني النضير حين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ولئن أخرجتم لنخرجن معكم ‏{‏وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ‏}‏ في قتالكم ‏{‏أَحَداً أَبَداً‏}‏ من رسول الله والمسلمين إن حملنا عليه أو في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة ‏{‏وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ في مواعيدهم لليهود، وفيه دليل على صحة النبوة لأنه إخبار بالغيب‏.‏

‏{‏لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ‏}‏ إنما قال ‏{‏وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ‏}‏ بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم على الفرض والتقدير كقوله ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏ وكما يعلم ما يكون فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون‏.‏ والمعنى ولئن نصر المنافقون اليهود لينهزمن المنافقون ثم لا ينصرون بعد ذلك أي يهلكهم الله ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم، أو لينهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين ‏{‏لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً‏}‏ أي أشد مرهوبية‏.‏ مصدر رهب المبني للمفعول‏.‏ وقوله ‏{‏فِى صُدُورِهِمْ‏}‏ دلالة على نفاقهم يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله وأنتم أهيب في صدورهم ‏{‏مّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ‏}‏ لا يعلمون الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته ‏{‏لاَ يقاتلونكم‏}‏ لا يقدرون على مقاتلتكم ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ مجتمعين يعني اليهود والمنافقين ‏{‏إِلا‏}‏ كائنين ‏{‏فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ‏}‏ بالخنادق والدروب ‏{‏أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ‏}‏ ‏{‏جدار‏}‏ مكي وأبو عمرو ‏{‏بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ‏}‏ يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة لأن الشجاع يجبن عند محاربة الله ورسوله ‏{‏تَحْسَبُهُمْ‏}‏ أي اليهود والمنافقين ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ مجتمعين ذوي ألفة واتحاد ‏{‏وَقُلُوبُهُمْ شتى‏}‏ متفرقة لا ألفة بينها يعني أن بينهم إحناً وعداوات فلا يتعاضدون حق التعاضد، وهذا تحسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم ‏{‏ذلك‏}‏ التفرق ‏{‏بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ‏}‏ أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم ويعين على أرواحهم‏.‏

‏{‏كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ أي مثلهم كمثل أهل بدر فحذف المبتدأ ‏{‏قَرِيبًا‏}‏ أي استقروا من قبلهم زمناً قريباً ‏{‏ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ‏}‏ سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم كلأ وبيل وخيم سيء العاقبة يعني ذاقوا عذاب القتل في الدنيا ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ أي ولهم مع ذلك في الآخرة عذاب النار ‏{‏كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ للإنسان اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِئ مّنكَ إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين‏}‏ أي مثل المنافقين في إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر، ثم متاركتهم لهم وإخلافهم كمثل الشيطان إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة‏.‏

وقيل‏:‏ المراد استغواؤه قريشاً يوم بدر وقوله لهم ‏{‏لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ‏}‏ إلى قوله ‏{‏إِنّي بَرِئ مّنْكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 48‏]‏ ‏{‏فَكَانَ عاقبتهما‏}‏ عاقبة الإنسان الكافر والشيطان ‏{‏أَنَّهُمَا فِى النار خالدين فِيهَا‏}‏ ‏{‏عاقبتهما‏}‏ خبر «كان» مقدم و«أن» مع اسمها وخبرها أي في النار في موضع الرفع على الاسم و‏{‏خالدين‏}‏ حال ‏{‏وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله‏}‏ في أوامره فلا تخالفوها ‏{‏وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ‏}‏ نكر النفس تقليلاً للأنفس النواظر فيما قدّمن للآخرة ‏{‏مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ‏}‏ يعني يوم القيامة سماه باليوم الذي يلي يومك تقريباً له أو عبر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران يوم وغد‏.‏ وتنكيره لتعظيم أمره أي لغد لا يعرف كنهه لعظمه‏.‏ وعن مالك بن دينار‏:‏ مكتوب على باب الجنة وجدنا ما عملنا ربحنا ما قدما خسرنا ما خلفنا‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ كرر الأمر بالتقوى تأكيداً أو اتقوا الله في أداء الواجبات لأنه قرن بما هو عمل، واتقوا الله في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد وهو ‏{‏إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ وفيه تحريض على المراقبة لأن من علم وقت فعله أن الله مطلع على ما يرتكب من الذنوب يمتنع عنه ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله‏}‏ تركوا ذكر الله عز وجل وما أمرهم به ‏{‏فأنساهم أَنفُسَهُمْ‏}‏ فتركهم من ذكره بالرحمة والتوفيق ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الفاسقون‏}‏ الخارجون عن طاعة الله‏.‏

‏{‏لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هُمُ الفائزون‏}‏ هذا تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار، والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز العظيم مع أصحاب الجنة والعذاب الأليم مع أصحاب النار، فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه كما تقول لمن يعق أباه «هو أبوك» تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبهه بذلك على حق الأبوّة الذي يقتضي البر والتعطف‏.‏ وقد استدلت الشافعية بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الكافر لا يملك مال المسلم بالاستيلاء، وقد أجبنا عن مثل هذا في أصول الفقه والكافي‏.‏

‏{‏لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله‏}‏ أي من شأن القرآن وعظمته أنه لو جعل في الجبل تمييز وأنزل عليه القرآن لخشع أي لخضع وتطأطأ وتصدع أي تشقق من خشية الله، وجائز أن يكون هذا تمثيلاً كما في قوله

‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏ ويدل عليه قوله ‏{‏وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ وهي إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل، والمراد توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره‏.‏ ثم رد على من أشرك وشبهه بخلقه فقال ‏{‏هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة‏}‏ أي السر والعلانية أو الدنيا والآخرة أو المعدوم والموجود ‏{‏هُوَ الرحمن الرحيم هُوَ الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك‏}‏ الذي لا يزول ملكه ‏{‏القدوس‏}‏ المنزه عن القبائح وفي تسبيح الملائكة‏:‏ سبوح قدوس رب الملائكة والروح ‏{‏السلام‏}‏ الذي سلم الخلق من ظلمه عن الزجاج ‏{‏المؤمن‏}‏ واهب الأمن‏.‏ وعن الزجاج‏:‏ الذي آمن الخلق من ظلمه أو المؤمن من عذابه من أطاعه ‏{‏المهيمن‏}‏ الرقيب على كل شيء الحافظ له مفيعل من الأمن إلا أن همزته قلبت هاء ‏{‏العزيز‏}‏ الغالب غير المغلوب ‏{‏الجبار‏}‏ العالي العظيم الذي يذل له من دونه أو العظيم الشأن في القدرة والسلطان أو القهار ذو الجبروت ‏{‏المتكبر‏}‏ البليغ الكبرياء والعظمة ‏{‏سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ نزه ذاته عما يصفه به المشركون ‏{‏هُوَ الله الخالق‏}‏ المقدر لما يوجده ‏{‏البارئ‏}‏ الموجد ‏{‏المصور‏}‏ في الأرحام ‏{‏لَهُ الأسماء الحسنى‏}‏ الدالة على الصفات العلا ‏{‏يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ ختم السورة بما بدأ به‏.‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه سألت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاسم الأعظم‏:‏ فقال «عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته» فأعدت عليه فأعاد عليّ فأعدت عليه فأعاد عليّ‏.‏

سورة الممتحنة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏1‏)‏ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ‏(‏2‏)‏ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏3‏)‏ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏4‏)‏ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

روي أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح فقال لها‏:‏ أمسلمة جئت‏؟‏ قالت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ أفمهاجرة جئت‏؟‏ قالت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فما جاء بك‏؟‏ قالت‏:‏ احتجت حاجة شديدة فحث عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً واستحملها كتاباً إلى أهل مكة نسخته‏:‏ من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة اعلموا أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم‏.‏ فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وكانوا فرساناً وقال‏:‏ انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها، فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدت وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي‏:‏ والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّ سيفه وقال‏:‏ أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك، فأخرجته من عقاص شعرها‏.‏ وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم، فاستحضر برسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً وقال‏:‏ ما حملك عليه‏؟‏ فقال‏:‏ يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدقه وقبل عذره‏.‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر رضي الله عنه فنزل‏.‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء‏}‏ عدي «اتخذ» إلى مفعوليه وهما ‏{‏عَدُوّى‏}‏ و‏{‏أَوْلِيَاء‏}‏ والعدوّ فعول من عدا كعفوّ من عفا ولكنه على زنة المصدر، أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد، وفيه دليل على أن الكبيرة لا تسلب اسم الإيمان ‏{‏تُلْقُونَ‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ‏}‏ والتقدير لا تتخذوهم أولياء ملقين ‏{‏إِلَيْهِمْ بالمودة‏}‏ أو مستأنف بعد وقف على التوبيخ‏.‏ والإلقاء عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها إليهم‏.‏ والباء في ‏{‏بالمودة‏}‏ زائدة مؤكدة للتعدي كقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏ أو ثابتة على أن مفعول ‏{‏تُلْقُونَ‏}‏ محذوف معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم ‏{‏وَقَدْ كَفَرُواْ‏}‏ حال من ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ‏}‏ أو من ‏{‏تُلْقُونَ‏}‏ أي لا تتولوهم أو توادونهم وهذه حالهم ‏{‏بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الحق‏}‏ دين الإسلام والقرآن ‏{‏يُخْرِجُونَ الرسول وإياكم‏}‏ استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوهم أو حال من ‏{‏كَفَرُواْ‏}‏ ‏{‏أَن تُؤْمِنُواْ‏}‏ تعليل ل ‏{‏يُخْرِجُونَ‏}‏ أي يخرجونكم من مكة لإيمانكم ‏{‏بالله رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ‏}‏ متعلق ب ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ‏}‏ أي لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي‏.‏

وقول النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه ‏{‏جِهَاداً فِى سَبِيلِى‏}‏ مصدر في موضع الحال أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي ‏{‏وابتغاء مَرْضَاتِى‏}‏ ومبتغين مرضاتي ‏{‏تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة‏}‏ أي تفضون إليهم بمودتكم سراً أو تسرون إليهم أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة وهو استئناف ‏{‏وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ‏}‏ والمعنى أي طائل لكم في أسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي وأنا مطلع رسولي على ما تسرون ‏{‏وَمَن يَفْعَلْهُ‏}‏ أي هذا الإسرار ‏{‏مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل‏}‏ فقد أخطأ طريق الحق والصواب‏.‏

‏{‏إِن يَثْقَفُوكُمْ‏}‏ إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم ‏{‏يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء‏}‏ خالصي العداوة ولا يكونوا لكم أولياء كما أنتم ‏{‏وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء‏}‏ بالقتل والشتم ‏{‏وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ‏}‏ وتمنوا لو ترتدون عن دينكم فإذاً موادة أمثالهم خطأ عظيم منكم‏.‏ والماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع ففيه نكتة كأنه قيل‏:‏ ودّوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض وردكم كفاراً أسبق المضار عندهم وأولها لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم، لأنكم بذالون لها دونه، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أهم شيء عند صاحبه‏.‏

‏{‏لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم‏}‏ قراباتكم ‏{‏وَلاَ أولادكم‏}‏ الذين توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم ثم قال ‏{‏يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ‏}‏ وبين أقاربكم وأولادكم ‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 34‏]‏ الآية‏.‏ فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من يفرّ منكم غداً‏.‏ ‏{‏يُفَصّلُ‏}‏‏:‏ عاصم‏.‏ ‏{‏يُفَصّلُ‏}‏ حمزة وعلي والفاعل هو الله عز وجل ‏{‏يُفَصّلُ‏}‏ ابن ذكوان غيرهم ‏{‏يُفَصّلُ‏}‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فيجازيكم على أعمالكم‏.‏

‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ‏}‏ قدوة في التبري من الأهل ‏{‏حَسَنَةٌ فِى إبراهيم‏}‏ أي في أقواله ولهذا استثنى منها إلا قول إبراهيم ‏{‏والذين مَعَهُ‏}‏ من المؤمنين وقيل‏:‏ كانوا أنبياء ‏{‏إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ‏}‏ جمع بريء كظريف وظرفاء ‏{‏وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة‏}‏ بالأفعال ‏{‏والبغضاء‏}‏ بالقلوب ‏{‏أَبَداً حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ‏}‏ فحينئذ نترك عداوتكم ‏{‏إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ‏}‏ وذلك لموعدة وعدها إياه أي اقتدوا به في أقواله ولا تأتسوا به في الاستغفار لأبيه الكافر ‏{‏وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَئ‏}‏ أي من هداية ومغفرة وتوفيق، وهذه الجملة لا تليق بالاستثناء ألا ترى إلى قوله‏:‏

‏{‏قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 11‏]‏ ولكن المراد استثناء جملة قوله لأبيه والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده تابع له كأنه قال‏:‏ أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار ‏{‏رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا‏}‏ متصل بما قبل الاستثناء وهو من جملة الأسوة الحسنة‏.‏ وقيل‏:‏ معناه قولوا ربنا فهو ابتداء أمر من الله للمؤمنين بأن يقولوه ‏{‏وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا‏}‏ أقبلنا ‏{‏وَإِلَيْكَ المصير‏}‏ المرجع ‏{‏رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب ‏{‏واغفر لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم‏}‏ أي الغالب الحاكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 13‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏6‏)‏ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏9‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الأخر‏}‏ ثم كرر الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام وقومه تقريراً وتأكيداً عليهم، ولذا جاء به مصدراً بالقسم لأنه الغاية في التأكيد، وأبدل من قوله ‏{‏لَكُمْ‏}‏ قوله ‏{‏لّمَن كَانَ يَرْجُو الله‏}‏ أي ثوابه أي يخشى الله وعقبه بقوله ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ‏}‏ يعرض عن أمرنا ويوال الكفار ‏{‏فَإِنَّ الله هُوَ الغنى‏}‏ عن الخلق ‏{‏الحميد‏}‏ المستحق للحمد فلم يترك نوعاً من التأكيد إلا جاء به ولما أنزلت هذه الآيات وتشدد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين أطمعهم في تحول الحال إلى خلافة فقال‏:‏

‏{‏عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم‏}‏ أي من أهل مكة من أقربائكم ‏{‏مَّوَدَّةَ‏}‏ بأن يوفقهم للإيمان، فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم فأسلم قومهم وتم بينهم التحاب‏.‏ و«عسى» وعد من الله على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج عسى أو لعل فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك أو أريد به إطماع المؤمنين ‏{‏والله قَدِيرٌ‏}‏ على تقليب القلوب وتحويل الأحوال وتسهيل أسباب المودة ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لمن أسلم من المشركين ‏{‏لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم أَن تَبَرُّوهُمْ‏}‏ تكرموهم وتحسنوا إليهم قولاً وفعلاً‏.‏ ومحل ‏{‏أَن تَبَرُّوهُمْ‏}‏ جر على البدل من ‏{‏الذين لَمْ يقاتلوكم‏}‏ وهو بدل اشتمال والتقدير عن بر الذين ‏{‏وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ‏}‏ وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم، وإذا نهى عن الظلم في حق المشرك فكيف في حق المسلم ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم فِى الدين وَأَخْرَجُوكُم مّن دياركم وظاهروا على إخراجكم أَن تَوَلَّوْهُمْ‏}‏ هو بدل من ‏{‏الذين قاتلوكم‏}‏ والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّهُمْ‏}‏ منكم ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون‏}‏ حيث وضعوا التولي غير موضعه‏.‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات‏}‏ سماهن مؤمنات لنطقهن بكلمة الشهادة، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان ‏{‏مهاجرات‏}‏ نصب على الحال ‏{‏فامتحنوهن‏}‏ فابتلوهن بالنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ امتحانها أن تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ‏{‏الله أَعْلَمُ بإيمانهن‏}‏ منكم فإنكم وإن رزتم أحوالهن لا تعلمون ذلك حقيقة وعند الله حقيقة العلم به ‏{‏فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات‏}‏ العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بظهور الأمارات، وتسمية الظن علماً يؤذن بأن الظن الغالب وما يفضي إليه القياس جارٍ مجرى العلم وصاحبه غير داخل في قوله

‏{‏وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏ ‏{‏فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار‏}‏ فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين‏.‏

‏{‏لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ‏}‏ أي لا حل بين المؤمنة والمشرك لوقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة ‏{‏وَءاتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ‏}‏ وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور‏.‏ نزلت الآية بعد صلح الحديبية وكان الصلح قد وقع على أن يرد على أهل مكة من جاء مؤمناً منهم، فأنزل الله هذه الآية بياناً لأن ذلك في الرجال لا في النساء لأن المسلمة لا تحل للكافر‏.‏ وقيل‏:‏ نسخت هذه الآية الحكم الأول ‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ‏}‏ ثم نفى عنهم الجناح في تزوج هؤلاء المهاجرات ‏{‏ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ أي مهورهن لأن المهر أجر البضع وبه احتج أبو حنيفة رضي الله عنه على أن لا عدة على المهاجرة ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُواْ‏}‏ ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُواْ‏}‏ بصري ‏{‏بِعِصَمِ الكوافر‏}‏ العصمة ما يعتصم به من عقد وسبب‏.‏ والكوافر جمع كافرة وهي التي بقيت في دار الحرب أو لحقت بدار الحرب مرتدة أي لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّنّ بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه ‏{‏وَسْئَلُواْ مَا أَنفَقْتُم‏}‏ من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار ممن تزوجها ‏{‏وَلْيَسْئَلُواْ مَا أَنفَقُواْ‏}‏ من مهور نسائهم المهاجرات ممن تزوجها منا ‏{‏ذَلِكُمْ حُكْمُ الله‏}‏ أي جميع ما ذكر في هذه الآية ‏{‏يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏}‏ كلام مستأنف أو حال من حكم الله على حذف الضمير أي يحكمه الله، أو جعل الحكم حاكماً على المبالغة وهو منسوخ فلم يبق سؤال المهر لا منا ولا منهم ‏{‏والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن فَاتَكُمْ شَئ مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار‏}‏ وإن انفلت أحد منهن إلى الكفار وهو في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أحد‏.‏

‏{‏فعاقبتم‏}‏ فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم عن الزجاج ‏{‏فَأَتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ‏}‏ فأعطوا المسلمين الذين ارتدت زوجاتهم ولحقن بدار الحرب مهور زوجاتهم من هذه الغنيمة ‏{‏واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ‏}‏ وقيل‏:‏ هذا الحكم منسوخ أيضاً‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ‏}‏ حال ‏{‏على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن‏}‏ يريد وأد البنات ‏{‏وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ‏}‏ كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك، كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين ‏{‏وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ‏}‏ طاعة الله ورسوله ‏{‏فَبَايِعْهُنَّ واستغفر لَهُنَّ الله‏}‏ عما مضى ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ بتمحيق ما سلف ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بتوفيق ما ائتنف‏.‏

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح مكة من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر قاعد أسفل منه يبايعهن عنه بأمره ويبلغهن عنه، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة فقال عليه السلام‏:‏ «أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً» فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئاً فقال عليه السلام‏:‏ «ولا يسرقن» فقالت هند‏:‏ إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات فقال أبو سفيان‏:‏ ما أصبت فهو لك حلال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها‏:‏ إنك لهند‏.‏ قالت‏:‏ نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال‏:‏ «ولا يزنين» فقالت‏:‏ أو تزني الحرة‏؟‏ فقال‏:‏ «ولا يقتلن أولادهن» فقالت‏:‏ ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «ولا يأتين ببهتان» فقالت‏:‏ والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق‏.‏ فقال‏:‏ «ولا يعصينك في معروف» فقالت‏:‏ والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء وهو يشير إلى أن طاعة الولاة لا تجب في المنكر‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ‏}‏ ختم السورة بما بدأ به قيل هم المشركون ‏{‏قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الأخرة‏}‏ من ثوابها لأنهم ينكرون البعث ‏{‏كَمَا يَئِسَ الكفار‏}‏ أي كما يئسوا إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير ‏{‏مِنْ أصحاب القبور‏}‏ أن يرجعوا إليهم أو كما يئس أسلافهم الذين هم في القبور من الآخرة أي هؤلاء كسلفهم‏.‏ وقيل‏:‏ هم اليهود أي لا تتولوا قوماً مغضوباً عليهم قد يئسوا من أن يكون لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة، كما يئس الكفار من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء‏.‏ وقيل‏:‏ من أصحاب القبور بيان للكفار أي كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم، والله أعلم‏.‏

سورة الصف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏2‏)‏ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ‏(‏4‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏6‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏9‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏10‏)‏ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ رُوي أنهم قالوا قبل أن يؤمروا بالجهاد‏:‏ لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه، فنزلت آية الجهاد فتباطأ بعضهم فنزلت ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏ «لم» هي لام الإِضافة داخلة على «ما» الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك‏:‏ «بم وفيم ومم وعم وإلام وعلام»، وإنما حذفت الألف لأن «ما» واللام أو غيرها كشيء واحد وهو كثير الاستعمال في كلام المستفهم، وقد جاء استعمال الأصل قليلاً قال‏:‏

على ما قام يشتمني جرير

والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان ومن أسكن في الوصل فلإِجرائه مجرى الوقف ‏{‏كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏ قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله

غلت ناب كليب بواؤها

ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأسند إلى أن تقولوا ونصب مقتاً على التمييز، وفيه دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه، والمعنى‏:‏ كبر قولكم ما لا تفعلون مقتاً عند الله، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض، وعن بعض السلف أنه قيل له‏:‏ حدثنا، فقال‏:‏ أتأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله‏.‏

ثم أعلم الله عز وجل ما يحبه فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ صَفّاً‏}‏ أي‏:‏ صافين أنفسهم مصدر وقع موقع الحال ‏{‏كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ‏}‏ لاصق بعضه ببعض‏.‏ وقيل‏:‏ أريد به استواء نياتهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رص بعضه إلى بعض وهو حال أيضاً ‏{‏وَإِذْ‏}‏ منصوب ب «اذكر» ‏{‏قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِى‏}‏ بجحود الآيات والقذف بما ليس فيّ ‏{‏وَقَد تَّعْلَمُونَ‏}‏ في موضع الحال أي‏:‏ لم تؤذونني عالمين علماً يقيناً ‏{‏أَنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ‏}‏ وقضية علمكم بذلك توقيري وتعظيمي لا أن تؤذوني ‏{‏فَلَمَّا زَاغُواْ‏}‏ مالوا عن الحق ‏{‏أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ‏}‏ من الهداية، أو لما تركوا أوامره نزع نور الإيمان من قلوبهم، أو فلما اختاروا الزيع أزاغ الله قلوبهم أي‏:‏ خذلهم وحرمهم توفيق اتباع الحق ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين‏}‏ أي‏:‏ لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق‏.‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابنى إسراءيل‏}‏ ولم يقل‏:‏ يا قوم كما قال موسى لأنه لا نسب له فيهم فيكونوا قومه ‏{‏إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التوراة وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسمه أَحْمَدُ‏}‏ أي‏:‏ أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني من التوراة وفي حالٍ تبشيري برسول يأتي من بعدي يعني‏:‏ أن ديني التصديق‏:‏ التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر، ‏{‏بَعْدِى‏}‏ حجازي وأبو عمرو وأبو بكر وهو اختيار الخليل وسيبويه، وانتصب ‏{‏مُصَدّقاً‏}‏ و‏{‏مُبَشّرًا‏}‏ بما في الرسول من معنى الإِرسال ‏{‏فَلَمَّا جَآءَهُمُ‏}‏ عيسى أو محمد عليهما السلام ‏{‏بالبينات‏}‏ بالمعجزات ‏{‏قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏{‏ساحر‏}‏ حمزة وعلي‏.‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ وأيّ‏:‏ الناس أشد ظلماً ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإِسلام الذي له فيه سعادة الدارين، فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق هذا سحر والسحر كذب وتمويه ‏{‏يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم‏}‏ هذا تهكم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن‏:‏ هذا سحر، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه والمفعول محذوف واللام للتعليل، والتقدير‏:‏ يريدون الكذب ليطفئوا نور الله بأفواههم، أي‏:‏ بكلامهم ‏{‏والله مُتِمُّ نُورِهِ‏}‏ مكي وحمزة وعلي وحفص ‏{‏مُتِمٌّ نُورِهِ‏}‏ غيرهم أي‏:‏ متم الحق ومبلغه غايته ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ الكافرون‏}‏ ‏{‏هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق‏}‏ أي‏:‏ الملة الحنيفية ‏{‏لِيُظْهِرَهُ‏}‏ ليعليه ‏{‏عَلَى الدين كُلّهِ‏}‏ على جميع الأديان المخالفة له، ولعمري لقد فعل فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام، وعن مجاهد‏:‏ إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ المشركون‏}‏‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏{‏تُنجّيكُم‏}‏ شامي ‏{‏تُؤْمِنُونَ‏}‏ استئناف كأنّهم قالوا كيف نعمل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏تؤمنون‏}‏ وهو بمعنى آمنوا عند سيبويه ولهذا أجيب بقوله‏:‏ ‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ ويدل عليه قراءة ابن مسعود ‏{‏آمنوا بالله وَرَسُولِهِ وجاهدوا‏}‏ وإنما جيء به على لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين ‏{‏بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما ذكر من الإيمان والجهاد ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ من أموالكم وأنفسكم ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أنه خير لكم كان خيراً حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أموالكم وأنفسكم فتفلحون وتخلصون ‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ومساكن طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ‏}‏ أي‏:‏ إقامة وخلود يقال عدن بالمكان إذا أقام به كذا قيل‏:‏ ‏{‏ذلك الفوز العظيم وأخرى تُحِبُّونَهَا‏}‏ ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم، ثم فسرها بقوله ‏{‏نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ‏}‏ أي‏:‏ عاجل، وهو فتح مكة والنصر على قريش‏:‏ أو فتح فارس والروم، وفي ‏{‏تُحِبُّونَهَا‏}‏ شيء من التوبيخ على محبة العاجل، وقال صاحب الكشف معناه‏:‏ هل أدلكم على تجارة تنجيكم وعلى تجارة أخرى تحبونها، ثم قال‏:‏ ‏{‏نَصْرُ‏}‏ أي‏:‏ نصر هي ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين‏}‏ عطف على ‏{‏تُؤْمِنُونَ‏}‏ لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل‏:‏ آمنوا وجاهدوا- يثبكم الله وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك‏:‏ وقيل‏:‏ عطف على «قل» مراداً قبل ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ‏}‏‏.‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أَنْصَارُ الله‏}‏ أي‏:‏ أنصار دينه ‏{‏أَنصَاراً لِلَّهِ‏}‏ حجازي وأبو عمرو ‏{‏كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ للحواريّن من أنصاري إلى الله‏}‏ ظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى ‏{‏مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله‏}‏ ولكنه محمول على المعنى، أي‏:‏ كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم‏:‏ ‏{‏مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله‏}‏ ومعناه‏:‏ من جندي متوجهاً إلى نصرة الله ليطابق جواب الحواريين وهو قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله‏}‏ أي‏:‏ نحن الذين ينصرون الله، ومعنى ‏{‏مَنْ أَنصَارِى‏}‏ من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله والحواريون أصفياؤه، وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلاً، وحواري الرجل صفيه، وخالصه من الحور وهو البياض الخالص، وقيل‏:‏ كانوا قصارين يحورون الثياب، أي‏:‏ يبيضونها ‏{‏فَئَامَنَت طَّائِفَةٌ مّن بَنِى إسراءيل‏}‏ بعيسى ‏{‏وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ‏}‏ به ‏{‏فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ عَلَى عَدُوِهِمْ‏}‏ فقوينا مؤمنيهم على كفارهم ‏{‏فَأَصْبَحُواْ ظاهرين‏}‏ فغلبوا عليهم والله ولي المؤمنين والله أعلم‏.‏